كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



تنبيه:
هذه السجدة من عزائم سجود التلاوة يسن للقارئ والمستمع والسامع أن يسجد عند قراءتها أو سماعها، وقرأ وإذا قيل لهم هشام والكسائي بالإشمام وضم القاف مع سكون الياء والباقون بكسر القاف، وقرأ لما يأمرنا حمزة والكسائي بالياء التحتية والباقون بالتاء الفوقية، وأبدل ورش والسوسي الهمزة وقفًا ووصلًا وحمزة وقفًا لا وصلًا، ولما حكى تعالى عن الكفار مزيد النفرة عن السجود وذكر ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود والعبادة للرحمن قال عز من قائل: {تبارك} أي: ثبت ثباتًا لا نظير له {الذي جعل في السماء} التي تقدم أنه اخترعها، واختلف في معنى قوله: {بروجًا} فقال الزجاج ومجاهد وقتادة: هي النجوم الكبار سميت بروجًا لظهورها، وقال عطية العوفي: هي القصور فيها الحرس كما قال تعالى: {ولو كنتم في بروج مشيدة} [النساء].
وقال عطاء عن ابن عباس: هي الاثنا عشر التي هي منازل الكواكب السبعة السيارة وهي: الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت، فالحمل والعقرب بيتا المريخ، والثور والميزان بيتا الزهرة، والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد، والسرطان بيت القمر، والأسد بيت الشمس، والقوس والحوت بيتا المشتري، والجدي والدلو بيتا زحل، وهذه البروج مقسومة على الطبائع الأربعة فيكون نصيب كل واحد منها ثلاثة بروج تسمى المثلثات فالحمل والأسد والقوس مثلثة نارية، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية.
{وجعل فيها} أي: السماء وقيل: البروج {سراجًا} أي: شمسًا وقرأ حمزة والكسائي بضم السين والراء على الجمع للتنبيه على عظمته في ذلك من حيث أنه أعظم من ألوف من السرج فهو قائم مقام الوصف كما في الذي بعده كما سيأتي وقيل: المراد بالجمع الشمس والكواكب الكبار، والباقون بكسر السين وفتح الراء وألف بعدها على التوحيد {وقمرًا منيرًا} أي: مضيئًا بالليل، ولما ذكر تعالى هاتين الآيتين ذكر ماهما آيتاه بقوله تعالى: {وهو الذي جعل الليل} أي: الذي آيته القمر {والنهار} أي: الذي آيته الشمس {خلفة} أي: ذوي حالة معروفة في الاختلاف، فيأتي هذا خلف ذاك بضد ما له من الأوصاف، وقال ابن عباس والحسن: يعني خلفًا وعوضًا يقوم أحدهما مقام صاحبه فمن فاته عمله في أحدهما قضاه في الآخر قال شقيق: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: فاتتني الصلاة الليلة قال: أدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك، فإن الله عز وجل جعل الليل والنهار خلفة {لمن أراد أن يذكر} أي: يتذكر آلاء الله ويتفكر في صنعه فيعلم أنه لابد له من صانع حكيم واجب الذات رحيم على العباد، وقرأ حمزة بسكون الذال وضم الكاف مخففة من ذكر بمعنى تذكر والباقون بفتح الكاف والذال مشددتين.
{أو أراد شكورًا} أي: شكر نعمة ربه عليه من الإتيان بكل منهما بعد الآخر لاجتناء ثمراته ولو جعل أحدهما دائمًا لفاتت مصالح الآخر ولحصلت السآمة والملل منه والتواني في الأمور المقدرة بالأوقات وفتر العزم الذي إنما يثيره لتداركها دخول وقت آخر وغير ذلك من الأمور التي أحكمها العلي الكبير، وعن الحسن من فاته عمله من التذكر والشكر بالنهار كان له في الليل مستعتب، ومن فاته بالليل كان له في النهار مستعتب، ولما ذكر الله تعالى عباده الذين خذلهم بتسليط الشيطان عليهم فصاروا حزبًا ولم يضفهم إلى اسم من أسمائه إيذانًا بإهانتهم لهوانهم عنده أشار إلى عباده الذين أخلصهم لنفسه قوله تعالى: {وعباد الرحمن} فأضافهم إليه رفعة لهم وإن كان الخلق كلهم عباده وأضافهم إلى وصف الرحمة الأبلغ الذي أنكره أولئك تبشيرًا لهم، ثم وصفهم بضد ما وصف به المتكبرين عن السجود إشارة إلى أنهم تخلقوا من هذه الصفة التي أضيفوا إليها بصفات كثيرة؛ الصفة الأولى: قوله تعالى: {الذين يمشون} وقال تعالى: {على الأرض} تذكيرًا بما يصيرون إليه وحثًا على السعي في معالي الأخلاق {هونًا} أي: هينين أو مشيًا هينًا مصدر وصف به مبالغة والهون الرفق واللين، ومنه الحديث: «أحبب حبيبك هونًا ما» وقوله: «المؤمنون هينون» والمثل: إذا عز أخوك فهن، والمعنى إذا عاسر فياسر، والمعنى أنهم يمشون بسكينة وتواضع ووقار لا يضربون لوقارهم بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشرًا وبطرًا ولذلك كره بعض العلماء الركوب في الأسواق لقوله تعالى: {ويمشون في الأسواق} [الفرقان].
تنبيه:
عباد مرفوع بالإبتداء وفي خبره وجهان؛ أحدها: الجملة الأخيرة في آخر السورة أولئك يجزون وبه بدأ الزمخشري والذين يمشون وما بعده صفات للمبتدأ، والثاني: أن الخبر الذين يمشون. الصفة الثانية {وإذا خاطبهم الجاهلون} أي: بما يكرهون {قالوا سلامًا} أي: تسلمًا منكم لا نجاهلكم ومتاركة لا خير بيننا ولا شر أي: فنسلم منكم تسلمًا فأقيم السلام مقام التسلم وقيل: قالوا: سدادًا من القول أي: يسلمون فيه من الإثم والإيذاء وليس المراد التحية؛ لأن المؤمنين لم يؤمروا بالسلام على المشركين، وعن أبي العالية: نسختها آية القتال ولا حاجة إلى ادعاء النسخ بآية القتال ولا غيرها؛ لأن الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في الأدب والمروءة والشريعة أسلم للعرض والورع، وأطلق الخطاب إعلامًا بأن أكثر خصال الجاهل وهو الذي يخالف العلم والحكمة الجهل وهو السفه وقلة الأدب من قوله:
ألا لا يجهلن أحد علينا ** فنجهل فوق جهل الجاهلينا

ولما ذكر تعالى ما بينهم وبين الخلق ذكر ما بينهم وبينه وهي الصفة الثالثة بقوله تعالى: {والذين يبيتون} من البيتوتة قال الزجاج: كل من أدركه الليل قيل: بات وإن لم ينم كما يقال: بات فلان قلقًا والمعنى يبيتون {لربهم} أي: المحسن إليهم {سجدًا} على وجوههم في الصلاة وقدّمه لأنه أنهى الخضوع، وأخر عنه قوله تعالى: {وقيامًا} أي: على أقدامهم وإن كان تطويل القيام أفضل للروي، وتخصيص البيتوتة؛ لأن العبادة في الليل أشق وأبعد من الرياء، قال الزمخشري: والظاهر أنه وصف لهم بإحياء الليل أو أكثره، وقيل: من قرأ شيئًا من القرآن في صلاة وإن قل فقد بات ساجدًا وقائمًا، وقال ابن عباس: من صلى بعد العشاء ركعتين فقد بات ساجدًا وقائمًا، وقيل: هما لركعتان بعد المغرب والركعتان بعد العشاء، وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من صلى عشاء الآخرة في جماعة كان كقيام نصف ليلة، ومن صلى الصبح في جماعة كان كقيام ليلة» ولما ذكر تعالى تهذيبهم للخلق والخالق وصفهم الله تعالى أنهم مع ذلك خائفون وجلون وهي الصفة الرابعة بقوله تعالى: {والذين يقولون ربنا} أي: المحسن إلينا {اصرف عنا عذاب جهنم} قال ابن عباس: يقولون في سجودهم وقيامهم هذا القول، ثم علل سؤالهم بقوله تعالى: {إن عذابها كان} أي: كونًا جبلت عليه {غرامًا} أي: هلاكًا وخسرانًا ملحًا لازمًا لا ينفك عنه كما قال:
إن يعاقب يكن غرامًا وإن يعـ ** ـط جزيلًا فإنه لا يبالي

ومنه الغريم لملازمته وإلحاحه فهم يبتهلون إلى الله تعالى في صرف العذاب عنهم لعدم اعتدادهم بأعمالهم ووثوقهم على استمرار أحوالهم، ولما ثبت لهم هذا الوصف أنتج قوله تعالى.
{إنها ساءت} أي: تناهت هي في كل ما يحصل منه سوء وهي في معنى بئست في جميع المذام {مستقرًا} أي: موضع استقرار {ومقامًا} أي: موضع إقامة.
تنبيه:
ساءت في حكم بئست كما مر ففيها ضمير مبهم يفسره مستقرًا، والمخصوص بالذم محذوف معناه ساءت مستقرًا ومقامًا هي وهذا الضمير هو الذي ربط الجملة باسم إن وجعلها خبرًا لها، ويجوز أن تكون ساءت بمعنى أحزنت ففيها ضمير اسم إن ومستقرًا حال أو تمييز والتعليلان يصح أن يكونا متداخلين أو مترادفين وأن يكونا من كلام الله تعالى وحكاية لقولهم، ولما ذكر تعالى أفعالهم وأقوالهم أتبع ذلك بذكر إنفاقهم وهو الصفة الخامسة بقوله تعالى: {والذين إذا أنفقوا} أي: للخلق أو الخالق في واجب أو مستحب أو مباح {لم يسرفوا} أي: لم يجاوزوا الحد في النفقة بالتبذير فيضيعوا الأموال في غير حقها {ولم يقتروا} أي: لم يضيقوا فيضيعوا الحقوق {وكان} أي: إنفاقهم بين ذلك أي: الإسراف والإقتار {قوامًا} أي: وسطًا.
تنبيه:
اسم كان ضمير يعود على الإنفاق المفهوم من قوله تعالى: {أنفقوا} وخبرها {قوامًا} وبين ذلك معمول له، وقيل: غير ذلك وذكر المفسرون في الإسراف والتقتير وجوهًا؛ أحدها: قال الرازي وهو الأقوى وصفهم بالقصد الذي هو بين الغلو والتقتير، وبمثله أمر صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} [الإسراء].
إذ يقال: ما عال من اقتصد، وسأل رجل بعض العلماء ما البناء الذي لا سرف فيه قال: ما سترك من الشمس وأكنك من المطر، قال: فما الطعام الذي لا سرف فيه؟ قال: ما سد الجوعة، قال: فما اللباس الذي لا سرف فيه؟ قال: ما ستر عورتك وأدفأك من البرد، ثانيها: وهو قول ابن عباس: الإسراف النفقة في معصية الله تعالى، والإقتار منع حق الله تعالى، وقال مجاهد: لو أنفق أحد مثل جبل أبي قبيس ذهبًا في طاعة الله تعالى لم يكن سرفًا، ولو أنفق صاعًا في معصية الله تعالى كان سرفًا، وقال الحسن: لم ينفقوا في معاصي الله ولم يمسكوا عما ينبغي وأنشدوا:
ذهاب المال في حمد وخير ** ذهاب لا يقال له ذهاب

وسمع رجل رجلًا يقول: لا خير في الإسراف، فقال: لا إسراف في الخير، وعن عمر بن عبد العزيز أنه شكر عبد الملك بن مروان حين زوجه ابنته وأحسن إليه فقال: وصلت الرحم وفعلت وصنعت وجاء بكلام كثير حسن فقال ابن لعبد الملك إنما هو كلام أعده لهذا المقام، فسكت عبد الملك، فلما كان بعد أيام دخل عليه والابن حاضر فسأله عن نفقته وأحواله، فقال: النفقة بين الشيئين، فعرف عبد الملك أنه أراد ما في هذه الآية فقال لابنه: يا بني هذا أيضًا مما أعده، وثالثها السرف مجاوزة الحد في التنعم والتوسع في الدنيا وإن كان من حلال؛ لأنه يؤدي إلى الخيلاء وكسر قلوب الفقراء، فكانت الصحابة لا يأكلون طعامًا للتنعم واللذة ولا يلبسون ثوبًا للجمال والزينة ولكن كانوا يأكلون ما يسد جوعتهم ويعينهم على عبادة ربهم ويلبسون ما يستر عوراتهم ويقيهم من الحر والبرد، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كفى سرفًا أن لا يشتهي الرجل شيئًا إلا اشتراه فأكله، وقرأ نافع وابن عامر يقتروا بضم التحتية وكسر الفوقية من أقتر، وابن كثير وأبو عمر بفتح التحتية وكسر الفوقية والكوفيون بفتح التحتية وضم الفوقية، ولما ذكر تعالى ما تحلوا به من أصول الطاعات أتبعه بذكر ما تخلوا عنه من أمهات المعاصي التي هي الفحشاء والمنكر وهو الصفة السادسة بقوله تعالى: {والذين لا يدعون} أي: رحمة لأنفسهم واستعمالًا للعدل {مع الله} أي: الذي اختص بصفات الكمال {إلهًا آخر} أي: دعاءً جليًا بالعبادة ولا خفيًا بالرياء، ولما نفى عنهم ما يوجب قتل أنفسهم بخسارتهم إياها أتبعه نفي قتل غيرهم بقوله سبحانه: {ولا يقتلون النفس} رحمة للخلق وطاعة للخالق ولما كان من الأنفس ما لا حرمة له بين المراد بقوله تعالى: {التي حرم الله} أي: منع من قتلها {إلا بالحق} أي: بأن تعمل بما يبيح قتلها، ولما ذكر القتل الجلي أتبعه الخفي بتضييع نسب الولد بقوله تعالى: {ولا يزنون} أي: رحمة للمزني بها ولأقاربها أن تنهتك حرماتهم مع رحمته لنفسه على أن الزنا أيضًا جار إلى القتل والفتن وفيه التسبب إلى إيجاد نفس بالباطل كما أن القتل سبب إلى إعدامها بذلك، وقد روي في الصحيح عن عبد الله بن مسعود أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم وفي رواية أكبر عند الله؟ قال: «أن تدعو لله ندًا وهو خلقك قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك» فأنزل الله تصديق ذلك، {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر} الآية.